ثم قال تعالى :﴿وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ ﴾ وفيه قولان الأول : أن هذا جواب فلما عند الكوفيين والفراء والواو زائدة والوق الثاني : أن عند البصريين لا يجوز ذلك والجواب مقدر والتقدير : فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب، قالوا : وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفاً كان أعظم وأفخم، قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل :﴿أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ ﴾ قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذا التكلف الشاق الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد، لا جرم قال قد صدقت الرؤيا/ يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا.
وقوله :﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى، وليس يتثل بما تقدم من الكلام، والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلَـا ؤُا الْمُبِينُ﴾ أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ﴿وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية، وههنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول : حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما تسوطا شعب ثبير أخبره بما أمر به، فقال : يا أبت اشدد رباطي فيَّ كيلا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقب عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
البحث الثاني : اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش لذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال آخرون أرسل الله كبشاً من الجنة قد رعى أربعين خريفاً، وقال السدي : نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه، وخلى عن ابنه، ثم اعتنق ابنه وقال : يا بني اليوم وهبت لي، وأما قوله :﴿عَظِيمٍ﴾ فقيل سمي عظيماً لعظمه وسمنه، وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وقيل سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم، ثم قال تعالى :﴿إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ الضمير في قوله :﴿أَنَّه ﴾ عائد إلى إبراهيم، ثم قال تعالى :﴿وَبَشَّرْنَـاهُ بِإِسْحَـاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ﴾ فقوله :﴿نَبِيًّا﴾ حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية، وذلك لأن قوله :﴿نَبِيًّا﴾ حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحق نبياً لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبياً، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبياً، وحال ما حكمنا عليه فصبر، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق، أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود، إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم، والله أعلم بالصواب.
ثم قال تعالى :﴿وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى ا إِسْحَـاقَ ﴾ وفي تفسير هذه البركة وجهان الأول : أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق والثاني : أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات، ثم قال تعالى :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِه مُبِينٌ﴾ وفي ذلك تنبيهخ على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن/ لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخلت تحت قوله :﴿مُحْسِنٌ﴾ الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله :﴿مُحْسِنٌ﴾ الأنبياء والمؤمنون وتحت قوله :﴿ظَالِمٌ﴾ الكافر والفاسق والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٥٥
٣٥٥


الصفحة التالية
Icon