المسألة الثالثة : أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم : إنه أبق من الله تعالى، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئاً، فقيل : لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضباً لربه، وهذا بعيد شواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر، وقيل : إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه، ولم يصبر عليهم. وهذا أيضاً بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذا لعمل فلا يجوز أن يتركه، والأقرب فيه وجهان الأول : أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله، وهذا هو الأقرب لأنه إقادم على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمداً للمعصية، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله :﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ﴾ ما ذكرناه الوجه الثاني : أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة، فذلك هو قوله :﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ﴾ وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى :﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء : ٨٧) وقوله :﴿إِلَى الْفُلْكِ﴾ مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة، ثم قال تعالى :﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ المساهمة هي المقارعة/ يقال : أسهم القوم إذا اقترعوا، قال المبرد : وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ أي : المغلوبين يقال : أدحض الله حجته فدحضت أي : أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق، يقال : دحضت رجل البعير إذا زلقت، وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، وكان الله تعالى أوحي إلى بني إسرائيل إذا إسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحي الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن أذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبياً، فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته، قال يونس : الله أمر بهاذ قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك، فقال يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه، فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مسجونة فحملوه فيها، فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق، فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ربح ولا سبب ظاهر، وقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع، فمن خرج سهمه نغرقه، فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس، فقال التجار : نحن أولى بالمعصية من نبي الله، ثم عادوا ثانياً وثالثاً يقترعون فيخرج سهم/ يونس، فقال : يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمي بنفسه فاتبلغته السمكة فأوحي الله تعالى إلى الحوت :"لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلاً" ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد، ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزناً شديداً، فقال : يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت، فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم انطلق إليهم، والله أعلم بحقيقة الواقعة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٦٣
ثم قال تعالى :﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ يقال : القمة والتهمة والكل بمعنى واحد، وقوله تعالى :﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه.


الصفحة التالية
Icon