أما قوله :﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق، والعزة ههنا التعظيم وما يعقتده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى :﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ ﴾ (البقرة : ٢٠٦) والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضيلة عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق، فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه، ومثله العاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة، وهي جانب الوادي، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر، ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلاناً أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه والله أعلم، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال :﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا ﴾ والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنياعند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا، وفيه وجوه الأول : وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة الثاني : نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب الثالث : نادوا أي رفعوا أصواتهم، يقال فلان أندى صوتاً من فلان أي ارفع صوتاً، ثم قال :﴿وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ يعني/ ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله :﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا﴾ (غافر : ٨٤) وقال :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْـاَرُونَ﴾ (المؤمنون : ٦٤) والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله :﴿ءَآلَْاـانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ (يونس : ٩١) وقوله :﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ (غافر : ٨٥) بقي ههنا أبحاث :
البحث الأول : في تحقيق الكلام في لفظ ﴿لاتٍ ﴾ الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد، وبسب هذه الزيادة حدثت لها أحكام جديدة، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها، إما الاسم وأما الخبر ويمتنع بروزهما جميعاً، وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان ﴿حِينَ مَنَاصٍ﴾ منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالإبتداء أي ولات حين مناص كائن لهم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
البحث الثاني : الجمهور يقفون على التاء من قوله :﴿وَّلاتَ﴾ والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة، قال صاحب "الكشاف" : وأما قول أب يعبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.
البحث الثالث : المناص المنجا والغوث، يثال ناصه إذا أغاثه، واستناص طلب المناص، والله أعلم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٧٠
٣٧٧
ابم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال :﴿وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ﴾ في قوله :﴿مِنْهُمْ﴾ وجهان الأول : أنهم قالوا : إن محمداً مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة لا التنبيه على كمال/ جهالتهم، وذلك ونه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة، والتنفير عن الدنيا، ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً من الكذب والتهمة ؛ وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه، ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله، ونظيره قوله :﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ﴾ (المؤمنون : ٦٩) فقال :﴿وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ﴾ ومعناه أن محمداً كان من رهطهم وعشيرتهم وكان مساوياً لهم في الأسباب الدنيوية فاستنكفروا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه، وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة الله وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة، وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٧٧


الصفحة التالية
Icon