البحث الثاني : معنى أن امشوا أنه قال بعضهم امشوا واصبروا، فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد، إن هذا لشيء يراد، وفيه ثلاثة أوجه أحدهما : ظهور دين محمد صلى الله عليه وسلّم ليس له سبب ظاهر يثبت أن تزايد ظهوره، ليس إلا لأن الله يريده، وما أراد الله كونه فلا دافع له وثانيها : أن الأمر كشيء من نوائب الدهر فلا انفكاك لنا منه وثالثها : أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، قال الفقال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين، وإنما عرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
ثم قال :﴿مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ﴾ والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلّم ما سمعناه في دين النصارى، أو يكون المراد بالمراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليهم، ثم قالوا :﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ﴾ افتعال وكذب، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد، فوجب أن يكون باطلاً، ولو كان القول بالتقليد حقاً لكان كلام هؤلاء المشركين حقاً/ وحيث كان باطلاً علمنا أن القول بالتقليد باطل.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٧٧
٣٨٦
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمداً لما كان مساوياً لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذا الدرجة العالية والمنزلة الشريفة ؟
وهو المراد من قولهم :﴿عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ﴾ فإنه استفهام على سبيل الإنكار، وحكى الله تعالى عن قوم صالح أنه قالوا مثل هذا القول فقالوا :﴿الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ (القمر : ٢٥) وحكى الله تعالى عن قوم محمد صلى الله عليه وسلّم أيضاً أنهم قالوا :﴿لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف : ٣١) وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة : أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشفر الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كادبة وسبب رواج هذا التغليظ عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل، فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه، فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه، فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه الأول : قوله تعالى :﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ وفيه وجهان أحدهما : أن قوله :﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى ﴾
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٨٦