ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم، ونظيره قوله تعالى :﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (يونس : ١٠٢) الآية والقول الثاني : أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور، كما قال تعالى في سورة يس :﴿مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ (يس : ٤٩) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة، فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم، كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره، ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال :﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿فَوَاقٍ﴾ بضم الفاء، والباقون بفتحها، قال الكسائي والفراء/ وأبو عبيدة والأخفش : هما لغتان من فواق الناقة. وهو ما بين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع، يقال أفاق من مرضه، أي رجع إلى الصحة، فالزمان الحاصل بين الحلبتين لعود اللبن إلى الضرع يمسى فواقاً بالفتح وبالضم، كقولك قصاص الشعر وقصاصه، قال الواحدي : والفواق والفواق إسمان من الأفاقة، والأفاقة معناها الرجوع والسكون كأفاقة المريض، إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن إلى الضرع، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية :"يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع، قال فيمدها ويطولها" وهي التي يقول :﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ ثم قال الواحدي : وهذا يحتمل معنيين أحدهما : ما لها سكون والثاني : ما لها رجوع، والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون، ويقال لكل من بقي على حالة واحدة، إنه لا يفيق منه ولا يستفيق، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ ذَا الايْدِا إِنَّه ا أَوَّابٌ﴾.
اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله :﴿وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌا مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا سَـاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص : ٤) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أولها : تتعلق بالإلهيات، وهو قوله :﴿أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ والثانية : تتعلق بالنبوات، وهو قوله :﴿عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنا بَيْنِنَا بَلْ﴾ (ص : ٨) والثالثة : تتعلق بالمعادة، وهو قوله تعالى :﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر/ فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته، والقط والقطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعد المؤمنين بالجنة، قالوا على سبيل الاستهزاء : عجل لنا نصيبنا من الجنة، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٨٩


الصفحة التالية
Icon