﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفاً بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعد الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس : حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال الله تعالى :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ (الأنعام : ١٢٤) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه، وأيضاً فبتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً، ولقد قال صلى الله عليه وسلّم :"لا تذكروا موتاكم إلا بخير" ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعولم بالضرورة أن يتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئاً من الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا سؤنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت. ولم يذكر شيئاً السابع : أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة فوجب أن يكون محرماً لقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (النور : ١٩) الثامن : لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله :"من سعى/ في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" وأيضاً لو فعل ذلك لكان ظالماً فكان يدخل تحت قوله :﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾ التاسع : عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :"من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين" وهو حد الفرية على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زني وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك، وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل. يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام العاشر : روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها/ وإن كانت الواقعة على ما ذكرت، ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام، فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر :"سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة، فإن قال قائل : إن كثيراً من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة، فكيف الحال فيها ؟
فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى، وأيضاً فالأصل بين الذمة، وأيضاً فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب تورجيح قولنا، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول الله لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة ؟
وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب، وأيضاً فقال عليه السلام : التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد، وأيضاً إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٣٩٢