ثم قال :﴿وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ﴾ يعني سلطناً البلاء عليه أولاً فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى الآلاء والنعماء، تنبيهاً لأولي الألباب على أن من صبر ظفر، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد :﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ﴾ وقالت المعتزلة قوله تعالى :﴿رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ﴾ يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد، وذلك يدل على أن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٣
أما قوله تعالى :﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ فهو معطوف على اركب والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقالوا إن قوله تعالى :﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله. فأنزل الله تعالى قوله :﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الأنفال : ٤٠) والمراد أنك إن لم تكن ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ فأنا ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ وإن كان منك الفضول، فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٣
٤٠٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير :﴿عَبْدَنَآ﴾ على الواحد وهي قراءة ابن عباس، ويقول إن قوله :﴿عَبْدَنَآ﴾ تشريف عظيم، فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصاً بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ الباقون :﴿عِبَـادَنَآ﴾ قالوا : لأن غير إبارهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في عيسى :﴿إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ (الزخرف : ٥٩) وفي أيوب :﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ (ص : ٤٤) وفي نوح :﴿إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ (الإسراء : ٣) فمن قرأ (عبدنا) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحق ويعقوب، ومن قرأ (عبادنا) جعل إبراهيم وإسحق ويعقوب عذف بيان لعبادنا.
المسألة الثانية : تقدير اةية كأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال : واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحق للذبح، وصب يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. ثم قال :﴿أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ﴾، واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر. إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة، أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله، وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة/الله، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل، فقوله :﴿أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ﴾ إشارة إلى هاتين الحالتين.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله :﴿بِخَالِصَةٍ﴾ قرىء بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار، ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار، يعني أن ذكرى الدار قد تكون لله وقد تكون لغير الله، فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٦
المسألة الثانية : في ذكرى الدار وجوه الأولى : المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا الثاني : المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة الثالث : المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله :﴿وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ﴾ (الشعراء : ٨٤).