ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاخْيَارِ﴾ أي المختارين من أبناء جنسهم والأخياء جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال.
ثم قال :﴿وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِا وَكُلٌّ مِّنَ الاخْيَارِ﴾ وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادة/ وههنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٦
٤٠٨
اعلم أن في قوله :﴿ذِكْرِ﴾ وجهين الأول : أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقاً آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال، وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر، لا جرم قال :﴿هَـاذَا ذِكْرٌ ﴾، ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال :﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ كما أن المصنف إذا تمم كلاماً قال هذا باب، ثم شرع في باب آخر، وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال :﴿هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ﴾ (ص : ٥٥) الوجه الثاني : في التأويل، أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام به أبداً، والأول هو الصحيح.
أما قوله :﴿رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ﴾.
فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى الله عليه وسلّم بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا له على سبيل الاستهزاء ﴿رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ (ص : ١٦) فعند هذا أمر محمداً بالصبر على تلك السفاهة، وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين الأول : أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد، فيجب عليك أن تقدي بهم في هذا المعنى الثاني : أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى، وهذا نظم حسن وترتيب لطيف.
أما فقوله تعالى :﴿هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ المآب المرجع. واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية، وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال، أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد، وكانت في حضرة جلال الله ثم تعلقت بالأبدان، فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعاً وجوابه : أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان، ولا يدل على قدم الأرواح.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٨
ثم قال تعالى :﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ وهو بدل من قوله :﴿لَحُسْنَ مَـاَابٍ﴾ ثم قال :﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوهاً الأول : قال الفراء : معناه مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفاً من الإضافة، تقول العرب : مررت برجل حسن الوجه، فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة والثاني : قال الزجاج : المعنى : مفتحة لهم الأبواب منها الثالث : قال صاحب "الكشاف" ﴿الابْوَابُ﴾ بدل من الضمير، وتقديره مفتحة/ هي الأبواب، كقولك ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.
المسألة الثانية : قرىء :﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله :﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ مبتدأ و﴿مُّفَتَّحَةً﴾ خبره، وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن مفتحة لهم.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول : أحوال مساكنهم، فقوله :﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ يدل على أمرين أحدهما : كونها جنات وبساتين والثاني : كونها دائمة آمنة من الانقضاء.
وفي قوله :﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ﴾ وجوه الأول : أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام، فيدخل كذلك محفوفاً بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة، قال تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ﴾ (الزمر : ٧٣). الثاني : أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم، وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث : المراد من هذا الفتح، وصف تلك المساكن بالسعة، ومسافرة العيون فيها، ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة.
ثم قال تعالى :﴿مُتَّكِـاِينَ فِيهَا﴾ يدعون فيها، وفيه مباحث :