البحث الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة، وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء، فقال في آية :﴿عَلَى الارَآاـاِكِ مُتَّكِـاُونَ﴾ (يس : ٥٦) وقال في آية أخرى :﴿مُتَّكِـاِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ (الرحمن : ٧٦).
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٨
البحث الثاني : قوله :﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ﴾ حال قدمت على العامل فيها وهو قوله :﴿يَدْعُونَ فِيهَا﴾ والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال :﴿بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير، والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة، فرغبهم الله تعالى فيه.
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح، فقال :﴿وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم، وقوله :﴿أَتْرَابٌ﴾ أي على سن واحد، ويحتمل كون الجواري أتراباً، ويحتمل كونهن أتراباً للأزواج، قال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة، أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية، وذلك يقتضي عدم الغيرة.
ثم قال تعالى :﴿هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة، ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال :﴿إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَه مِن نَّفَادٍ﴾.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٠٨
٤١٦
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين، وصف بعده عقاب الطاغين، ليكون الوعيد مذكوراً عقيب الوعد، والترهيب عقيب الترغيب.
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعاً فالأول : مرجعهم ومآبهم، فقال :﴿هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ مَـاَابٍ﴾ (ص : ٥٥) وهذا في مقابلة قوله :﴿هَـاذَا ذِكْرٌا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (ص : ٤٩) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين، واختلفوا في المراد بالطاغين، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار، وقال الجبائي : إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أو لم يكونوا كذلك، واحتج الأولون بوجوه الأول : أن قوله :﴿لَشَرَّ مَـاَابٍ﴾ يقتضي أن يكون مآبهم شراً من مآب غيرهم، وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا :﴿أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ وذلك لا يليق إلا بالكفار، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخرياً الثالث : أنه اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل، والكامل في الطغيان هو الكافر، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى :/ ﴿كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق : ٦، ٧) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى، ذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب، أي شر مرجع ومصير، ثم قال :﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله :﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ ثم قال :﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ وهو كقوله :﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ (الأعراف : ٤١) شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤١٦
ثم قال تعالى :﴿هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه وجهان الأول : أنه على التقديم والتأخير، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني : أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه، ثم يبتدىء فيقول : حميم وغساق.
المسألة الثانية : الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول : أنه الذي يغسق من صديد أهل النار، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها. وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني : قيل الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده، وذكر الأزهري : أن الغاسق البارد، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث : أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع : قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.
المسألة الثالثة : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف. قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسماً أو صفة، فإن كان اسماً فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلاً، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك.
ثم قال تعالى :﴿وَءَاخَرُ مِن شَكْلِه أَزْوَاجٌ﴾ وفيه مسائل :