أما قوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْما بِالْمَلا الاعْلَى ا إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة، وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه : الأول : أن كل واحد منها نبأ عظيم، والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه الثاني : أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةًا قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَا قَالَ﴾ (البقرة : ٣٠) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق / البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله :﴿مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله :﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ فقال الله سبحانه وتعالى :﴿إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ وتقرير هذا الجواب والله أعلم/ أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة : أحدها : الذين حصل لهم العقل والحكمة، ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط ثانيها : الذين حصل لهم النفس والشهوة، ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم وثالثها : الأشياء الخالية عن القسمين، وهي الجمادات وبقي في التقسيم قسم رابع : وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة، فقوله ﴿إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ يعني أن هذا النوع من المخلوقات، وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء، لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة، وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات، وأن يجتهد في اكتسابها، وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر، وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعياً له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجراً له عن أضدادها ومقابلاتها، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام. فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ (البقرة : ٣٠) فإن المخاصمة مع الله كفر، قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه، ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول :﴿إِن يُوحَى ا إِلَىَّ إِلا أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي، وإنما أوحى الله إليّ هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤١٨
٤١٨
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر، وذلك لأن إبليس، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمداً عليه السلام بسبب الحسد والكبر، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال، ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أموراً أربعة أولها : أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني : أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث : أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما، فهذا هو وجه النظم في هذه الآياع، واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة، فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل :
المسألة الأولى : في قوله :﴿إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ سؤالات :
الأول : أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين، كما إذا قيل أنا متخذ سواراً من ذهب، فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة.
الثاني : ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين، وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله :﴿مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر : ٢٦) وكقوله :﴿خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ (الأنبياء : ٣٧).
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤١٨


الصفحة التالية
Icon