ثم قال تعالى :﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا ملك / إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر، فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك، فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكاً قادراً ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) وذلك محال، وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصاً ولا يصلح للإلهية، فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله، وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد، ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته، رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول : قوله :﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة. أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية : أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم، وما ذاك الغير إلا الله، وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب، فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه، وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم : أن قوله :﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ تعجب من هذا الانصراف، ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٤
ثم قال تعالى :﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ﴾ والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة، وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق، ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، وإنما قلنا إنه غني لوجوه : الأول : واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته، ومن كان كذلك كان غنياً على الإطلاق الثاني : أنه لو كان محتاجاً لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة. والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجاً إليه وذلك محال، لأن الخلق والأزل متناقض. والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث : هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا ؟
أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو، وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك، فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم.
ثم قال تعالى بعده :﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر، واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين : الأول : أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب، قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه، وذلك ضد الآية الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضاء الله تعالى/ وأجاب / الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول : أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين، قال الله تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ (الفرقان : ٦٣) وقال :﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٦) وقال :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ (الحجر : ٤٢) فعلى هذا التقدير قوله :﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ ولا يرضى للمؤمنين الكفر، وذلك لا يضرنا الثاني : أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله، قال الله تعالى :﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الفتح : ١٨) أي يمدحهم ويثنى عليهم الثالث : كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول : الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض، وليس عبارة عن الإرادة، والديل عليه قول ابن دريد :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٤
رضيت قسراً وعلى القسر رضامن كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع : هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله :﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ عام، فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى :﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه ﴾ (الإنسان : ٣٠) والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر، وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon