المسألة الأولى : اختلف القراء في هاء ﴿يَرْضَهُ﴾ على ثلاثة أوجه أحدها : قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها : قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها : قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء مشبعة، قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واواً، لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله، فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو، لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية، ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا.
المسألة الثانية : الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم.
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على فعل غيره، فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه، وأيضاً لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء، بخلاف ما يقول القوم. واحتج أيضاً من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ﴾ واعلم أنا ذكرنا كثيراً أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان، وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية، وأن يعرف أحواله بعد الموت، ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال / قدرة الصانع وعلمه وحكمته، ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه ع ن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله :﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٤
المسألة الأولى : المشبهة تمسكوا بلفظ إلى علم أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مراراً.
المسألة الثانية : زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة.
ثم قال :﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع، وقوله تعالى :﴿إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ كالعلة لما سبق، يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم، لأنه عالم بجميع المعلومات، فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف، وقال صلى الله عليه وسلّم :"إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٤
٤٣٩
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر، لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا/ به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة.
أما قوله تعالى :﴿وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ﴾ فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره، وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره، لأن الكلام يخرج على معهود، تقدم.
أما قوله ﴿ضُرٌّ﴾ فيدخل فيه جميع المكاره سواء كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده، لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد ﴿خَشِىَ رَبَّه ﴾ أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء، فلذلك قال :﴿مُنِيبًا إِلَيْهِ﴾ أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَه نِعْمَةً مِّنْهُ﴾ أي أعطاه، قال صاحب "الكشاف" : وفي حقيقته وجهان أحدهما : جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال، إذا كان متعهداً له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة" والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي المعنى قالت العرب :
إن الغنى طويل الذيل مياس
ثم قال تعالى :﴿نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من كقوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى ﴾ (الليل : ٣) وقوله تعالى :﴿وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ (الكافرون : ٣) وقوله تعالى :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ (النساء : ٣) وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه، ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع، وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله.


الصفحة التالية
Icon