جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٩
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره.
المسألة الثانية : المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواء وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه. ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل.
المسألة الثالثة : معنى قوله :﴿لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِه ﴾ أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثماً على إثمه، واللام في قوله ﴿لِّيُضِلَّ﴾ لام العاقبة كقوله :﴿فَالْتَقَطَه ا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ (القصص : ٨) ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال :﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا ﴾ وليس المراد منه الأمر بل/ الزجر، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا، ثم يكون مصيره إلى النار.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين، ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله، فقال :﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وحمزة ﴿مِنْ﴾ مخففة الميم والباقون بالتشديد، أما التخفيف ففيه وجهان الأول : أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك، وقيل كالذي جعل لله أنداداً فاكتفى بما سبق ذكره والثاني : أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.
المسألة الثانية : القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله :"أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائماً. عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا ﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ﴾ وعن ابن عباس القنوت طاعة الله، لقوله :﴿كُلٌّ لَّه قَـانِتُونَ﴾ (البقرة : ١١٦) أي مطيعون، وعن قتادة ﴿أَمَّنْ هُوَ﴾ ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه الأول : أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني : أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة الله وخدمته الثالث : أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع : قوله تعالى :﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْـاًا وَأَقْوَمُ قِيلا﴾ (المزمل : ٦) وقوله :﴿سُجَّدًا﴾ حال، وقرىء ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٣٩
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتاً ساجداً قائماً، وأما العلم فقوله :﴿هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.
الفائدة الثانية : أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظباً عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائماً بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان، وقوله :﴿سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا﴾ إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله :﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه ﴾ إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله :﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ﴾ ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله :﴿مِن رَّحْمَةِ رَبِّه ﴾ ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله :﴿هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾.
الفائدة الثالثة : أنه قال في مقام الخوف ﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ﴾ فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon