واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ فقوله :﴿فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا﴾ يحتمل أن يكون صلة لقوله :﴿أَحْسَنُوا ﴾ أو لحسنة، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، والتنكير في قوله :﴿حَسَنَةٌ﴾ للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها. وأما على التقدير الثاني : فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلّم :"ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية" ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول : أن التنكير في قوله :﴿حَسَنَةٌ﴾ يدل على النهاية والجلالة والرفعة، وذلك لا يليق / بأحوال الدنيا، فإنها خسيسة ومنقطعة، وإنما يليق بأحوال الآخرة، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني : أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى :﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ ﴾ وأيضاً فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار، وأيضاً فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلّم :"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وقال تعالى :﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ (الزخرف : ٣٣)، الثالث : أن قوله :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ يفيد الحصر، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا، وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى/ ثم قال الله تعالى :﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ﴾ وفيه قولان الأول : المراد أنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن، ونظيره قوله تعالى :
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٤٠
﴿قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الارْضِا قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ (النساء : ٩٧) والقول الثاني : قال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله، أي جنته واسعة، لقوله تعالى :﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ (الزمر : ٧٤) وقوله تعالى :﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران : ١٣٣) والقول الأول عندي أولى، لأن قوله :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يليق إلا بالأول، وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر، فقد ذكرناه في سورة البقرة، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية : تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب، لأن الأجر هو المستحق، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجراً بحسب الوعد، لا بحسب الاستحقاق.


الصفحة التالية
Icon