المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب، وفيه وجوه الأول : قال الجبائي : المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلاً فهو بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حساباً، قال القاضي هذا ليس بصحيح، لأن الله تعالى وصف الأجر/ بأنه بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق، والأجر غير التفضل الثاني : أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها : أنها تكون دائمة الأجر لهم، وقوله :﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ معناه بغير نهاية، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب وثانيها : أنها تكون منافع كاملة في أنفسها، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب، قال صلى الله عليه وسلّم :"إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه، وما لا يتوقعه الإنسان، فقد يقال إنه ليس في حسابه، فقوله :﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ محمول على هذا المعنى والوجه الثالث : في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال، روى صاحب "الكشاف" عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ينصب الله الموازين يوم القيامة، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صباً" قال الله تعالى :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٤٠
النوع الثاني : من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى :﴿قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟
ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله، قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأقول إن التكليف نوعان أحدهما : الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني : الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال :﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال :﴿إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ وهذا يشتمل على قيدين أحدهما : الأمر بعبادة الله الثاني : كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير، وقوله تعالى :﴿وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، وفي هذه الآية فائدتان :
الفائدة الأولى : كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعاً فيه وأكثرهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية : أنه قال :﴿إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ﴾ والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله :﴿مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم/ فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله في هذه الآية :﴿وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ ﴿أُمِرْتُ﴾ لأنا نقول ذكر لفظ ﴿أُمِرْتُ﴾ أولاً في عمل القلب وثانياً في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريراً.
جزء : ٢٦ رقم الصفحة : ٤٤٠
الفائدة الثالثة : في قوله :﴿وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال :﴿قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وفيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن الله أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يجري هذا الكلام على نفسه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفاً حذراً عن المعاصي فغيره بذلك أولى.


الصفحة التالية
Icon