المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر، فقالوا : إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين قال تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ (الإنسان : ٦) ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم، فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله ﴿فِى عِبَـادِى﴾ مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح، فثبت أن قوله ﴿فِى عِبَـادِى﴾ لا يليق إلا بالمؤمنين، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال :﴿الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ﴾ وهذا عام في حق جميع المسرفين.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٢
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين، وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً، وأنتم لا تقولون به، فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به، والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية، فسقط الاستدلال، وأيضاً إنه تعالى قال عقيب هذه الآية ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ﴾ إلى قوله ﴿بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون، وأيضاً قال :﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ﴾ ولو كانت الذنوب كلها مغفورة، فأي حاجة به إلى أن يقول :﴿يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنابِ اللَّهِ﴾ ؟
وأيضاً فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها، وذلك لا يليق بحكمة الله، وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ألبتة، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله، إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة، فمعنى قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ أي بالتوبة والإنابة والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به/ قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه، وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع، وهي للاستقبال، وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً، إما قبل الدخول في نار جهنم، وإما بعد الدخول فيها، فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا.
أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة، فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية، بل نقول لعله يعفو مطلقاً، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك، وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٧٢


الصفحة التالية
Icon