المسألة الثانية : دلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بينوا أنه ما بقي لهم علة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا فهم ﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ قالت المعتزلة : لو كان دخولهم النار لأجل أنه حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقول الملائكة ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ فائدة، بل هذا الكلام إنما يبقى مقيداً إذا قلنا إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم، وذلك يدل على صحة قولنا، والله أعلم بالصواب.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٢
٤٨٧
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة، شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية، فقال :﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ﴾ فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول، لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بدّ وأن يساقوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة، فأي حاجة فيه إلى السوق ؟
والجواب من وجوه الأول : أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى :﴿الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف : ٦٧) فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب، فحينئذٍ يجتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني : أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار، فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار" فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع : أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك، فشتان ما بين السوقين.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٧
ثم قال تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ الآية، واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود : القيد الأول : هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني : قوله تعالى :﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو، وقال ههنا بالواو فما الفرق ؟
قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على وصولهم إليها بدليل قوله ﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ﴾ (ص : ٥٠) فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها. القيد الثالث : قوله ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ﴾ فبيّن تعالى أن خزنة الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها : قولهم ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات وثانيها : قولهم ﴿طِبْتُمْ﴾ والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها : قولهم ﴿فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ﴾ والفاء في قوله ﴿فَادْخُلُوهَا﴾ يدل على كون ذلك الدخول معللاً بالطيب والطهارة، قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحداً لا يدخلها إلا إذا كان طاهراً عن كل المعاصي/ قلنا هذا شعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات، وحينئذٍ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى، فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب ؟
قلنا فيه وجهان الأول : أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني : أن الجواب هو قوله تعالى :﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ﴾ والواو محذوف، والصحيح هو الأول، ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات، قال المتقون عند ذلك ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَه ﴾ في قوله ﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت : ٣٠) ﴿وَأَوْرَثَنَا الارْضَ﴾
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٤٨٧


الصفحة التالية
Icon