اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليلاً على أنه يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية، فقال :﴿هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِه ﴾ واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان، ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان، فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات.
ثم قال :﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ﴾ والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل، إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال :﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ من الشرك، ومن الإلتفات إلى غير الله ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾ قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٠٦
٥٠٨
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ﴾ قال صاحب "الكشاف" ثلاثة أخبار لقوله ﴿هُوَ﴾ مرتبة على قوله ﴿الَّذِى يُرِيكُمْ﴾ (غافر : ١٣) أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً، قرىء ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ﴾ بالنصب على المدح، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة :
الصفة الأولى : قوله ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ﴾ واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول :: أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء درجة معينة، كما قال :﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات : ١٦٤) وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال :﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَـاتٍ ﴾ (المجادلة : ١١) وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية عنصرية، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل، فقال :﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـا اـاِفَ الارْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ﴾ (الأنعام : ١٦٥) وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي، الذي هو أول لكل ما سواه، وليس له أول وآخر لكل ما سواه، وليس له آخر، أما في العلم : فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات، كما قال :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٠٨
﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ (الأنعام : ٥٩) وأما في القدرة : فهو أعلى القادرين وأرفعهم، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه، وأما في الوحدانية : فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير، وأقول : الحق سبحانه له صفتان أحدهما : استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني : افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام، وإن فسرناه بالرافع، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته.


الصفحة التالية
Icon