الصفة الثانية : قوله ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ وحملوه على أن المراد بالدرجات/ السموات، وبقوله ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ أنه موجود في العرش فوق سبع سموات، وقد ىعظموا الفرية على الله تعالى، فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسماً وفي جهة محال، وأيضاً فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه، لأن قوله ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكاً له ومخرجاً له من العدم إلى الوجود، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى.
الصفة الثانية : قوله ﴿يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح، والصحيح أن المراد هو الوحي، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله ﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه ﴾ (النحل : ٢) وقال أيضاً :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ (الانعام : ١٢٢) وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية، فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح سمي بالروح، فإن الروح سبب لحصول الحياة، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٠٨
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضداً للعقل، فههنا أيضاً كذلك، فقوله ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ﴾ إما أن يكون بمعنى كونه رافعاً للدرجات، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على احتلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها، أو إلى كونه تعالى مرتفعاً في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات، فهذا الكلام عقلي برهاني، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وءما روحانيات، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى، أما الجسمانيات فأعظمها العرش، فقوله ﴿ذُو﴾ يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكداً لذلك العقول، أعني قوله ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ﴾ وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه، وإليه الإشارة بقوله ﴿يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِه ﴾.
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها : المرسل وهو الله سبحانه وتعالى، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال :﴿يُلْقِى الرُّوحَ﴾ والركن الثاني : الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث : أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله ﴿مِنْ أَمْرِه ﴾ فالركن الروحاني يسمى أمراً، قال تعالى :﴿وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ (فصلت : ١٢) وقال :﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ ﴾ (الأعراف : ٥٤) والركن الرابع : الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله ﴿عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ والركن الخامس : تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات/ وإليه الإشارة بقوله ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ ﴾ فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٠٨
وبقي ههنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ؟
وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق ؟
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه :


الصفحة التالية
Icon