المسألة الرابعة : في بيان نظم الآية، فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف فأولها : أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم، لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف، حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة والثاني : قوله ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾ والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعاً من دخول النفس والثالث : قوله ﴿كَـاظِمِينَ ﴾ والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب الرابع : قوله ﴿مَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته والخامس : قوله ﴿يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ﴾ والمعنى أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديداً جداً، قال صاحب "الكشاف" : الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة، كالعافية المعاناة، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحلة كما يفعل أهل الريب، والمراد بقوله ﴿وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ﴾ مضمرات القلوب، والحاصل أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح وأفعال القلوب، أما أفعال الجوارح، فأخفاها خائنة الأعين والله أعلم بها، فكيف الحال في سائر الأعمال. وأما أفعال القلوب، فهي معلومة لله تعالى لقوله ﴿وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ﴾ فدل هذا على كونه تعالى عالماً بجميع أفعالهم السادس : قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ ﴾ وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف، لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوالل، وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل، كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى السابع : أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام، وقد بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة، فقال :﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ ﴾ الثامن : قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٠
أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله، فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغاً في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه، ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفع ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال :﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى آثاراً في الأرض منهم، والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلاً حتى إن هؤلاء الحالضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار، فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول، وبين بقوله ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾ أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم، ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل، فحذر قوم الرسوم من مثله، وختم الكلام بـ ﴿إِنَّه قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ مبالغة في التحذير والتخويف، والله أعلم.
وقرأ ابن عامر وحده ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ﴾ بالكاف، والباقون بالهاء أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب، كقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ بعد قوله والولجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة، فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم، وهذه الآية في المعنى كقوله ﴿قَرْنٍ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ (الأنعام : ٦) وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٠
٥١٢
واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضاً بذكر موسى عليه السلام، وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوا وكابروه، وقالوا هو ساحر كذاب.


الصفحة التالية
Icon