واعلم أن موسى عليه السلام، لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوّة وهي المراد بقوله ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا﴾ حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات فالأول : أنهم وصفوه بكونه ساحراً كاذباً، وهذا في غاية البعد، لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر ألبتة الثاني : أنهم قالوا ﴿اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ ﴾ والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام، لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت، وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ﴾ ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل، لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها النوع الثالث : من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى :﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، وفيه احتمالان.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٢
والاحتمال الأول : أنهم منعوه من قتله لوجوه الأول : لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً، فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله الثاني : قال الحسن : أن أصحابه قالوا له لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه الثالث : لعلّهم كانوا يحتالون في منعه من قتله، لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام، فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك.
والاحتمال الثاني : أن أحداً ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قتله فيفتضح إلا أنه لوقاحته قال :﴿ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه وغرضه منه إخفاء خوفه.
أما قوله ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّه ا ﴾ فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني.
وأما قوله ﴿إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : فتح ابن كثير الياء من قوله ﴿ذَرُونِى ﴾ وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من ﴿إِنِّى أَخَافُ﴾ وأيضاً قرأ نافع وابن عمرو ﴿وَإِن يَظْهَرُوا ﴾ بالواو وبحذف أو، يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد، والذين قرأوا بصيغة أو فمعناه أنه لا بد من وقع أحد الأمرين وقرىء يظهر بضم الياء وكسر الهاء والفساد بالنصب على التعدية، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ أو يظهر بفتح الياء والهاء والفساد بالرفع، أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلى موسى في قوله ﴿يُبَدَّلُ﴾ فكذلك في يظهر ليكون الكلام على نسق واحد، وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل.
المسألة الثانية : المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعياً في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال :﴿إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال :﴿أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارْضِ الْفَسَادَ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥١٢
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال :﴿إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار.
المسألة الثانية : المعنى أنه لم يأتِ في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله، واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية، وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد :


الصفحة التالية
Icon