ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُم إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـالِغِيه فَاسْتَعِذْ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُا قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة، ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني : أنه تعالى لما أمر بالدعاء، فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة، فما الدليل على وجود الإله القادر، وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته، إما فلكية، وإما عنصرية، أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها : تعاقب الليل والنهار، و(لما) كان أكثر مصالح العالم مربوطاً بهما فذكرهما الله تعالى في هذا المقام، وبيّن أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون، والحكمة في خلق النهار، إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع، أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين : الأول : أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف، وذلك يوجب التألم والثاني : أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس، ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات، وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء، وأيضاً الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات، فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٢
﴿اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ وأما قوله ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع، ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه، وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة، وتلك الأعمال تصرفات في أمور، وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه، فهذا هو الحكمة في قوله ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه، أو فجعل لكم الليل ساكناً ولكنه لم يقل كذلك بل قالل في الليل لتسكنوا فيه، وقال في النهار مبصراً فما الفائدة فيه ؟
وأيضاً فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل ؟
قلنا : أما الجواب عن الأول : فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات، أما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات، وقد بيّن الشيخ عبد القاهر النحوي في "دلائل الإعجاز" أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما/ فهذا هو السبب في هذا الفرق والله أعلم، وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود، ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الأنعام : ١).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٢


الصفحة التالية
Icon