واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ والمراد أن فضل الله على الخلق كثيراً جداً ولكنهم لا يشكرونه، وأعلم أن ترك الشكر لوجوه : أحدها : أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها، فحينئذٍ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وءن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكونيه إلا أن هذه النعم العظيمة، أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان، فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة، فحينئذٍ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء، ورأيت بعض الملوك كان يمعذب بعض خدمه بأن أمر أقواماً حتى ينمعونه عن الإستناد إلى الجدار، وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها : أن الرجل وإن كان عارفاً بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا محباً للمال والجاه، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة، ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها، لا جرم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ : ١٣) وقول إبليس ﴿وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ﴾ (لأعراف : ١٧) ولما بيّن الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال :﴿ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ ﴾ قال صاحب "الكشاف" ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها، ثم قال تعالى :﴿كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ذ يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أفكر كما أفكوا.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٢
٥٣٣
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته ءما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها : الأرض والسماء وهو المراد من قوله ﴿اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ قال ابن عباس في قوله ﴿قَرَارًا﴾ أي منزلاً في حال الحياة وبعد الموت ﴿وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ كالقبة المضروبة على الأرض، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها ﴿وَالسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ أي قائمئاً ثابتاً وإلا لوقعت علينا، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها : ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني : ما كان حاصلاً في ابتداء خلقته وتكوينه.
أما القسم الأول : فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها : حدوث صورته وهو المراد من قوله ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ وثانيها : حسن صورته وهو المراد من قوله ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾، وثالثها : أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ ﴾ وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ (الإسرار : ٧٠) ولما ذكر الله تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال :﴿ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ وتفسير بتارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات، ثم قال :﴿هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعاً ذاتياً وحينئذٍ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٣٣


الصفحة التالية
Icon