البحث الثالث : قوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ﴾ مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى :﴿وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ﴾ (النازعات : ٣٠) مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة، والجواب المشهور : أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولاً ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض، وبهذا الطريق يزول التناقض، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثلث فِيهَا رَوَاسِىَ رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَتَهَا وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة، وقوله تعالى :﴿وَبَـارَكَ فِيهَا﴾ مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ﴾ فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني : أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضاً فهي منذ خلقت كانت مدحوة، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة، وذلك باطل الثالث : أن الأرض جسم في غاية العظم، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحواً، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة، ثم صارت مدحوة قول باطل، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال، وإن كان المراد منه أنه خلق أولاً أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أحزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً، فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دحو الأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس : أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية ﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٧
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور، ونقل الواحدي في "البسيط" عن مقاتل أنه قال : خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ﴾ ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان لما قال تعالى :﴿قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّه مِن قَبْلُ ﴾ (يوسف : ٧٧) معناه إن يكن سرق، وقال تعالى :﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ (الأعراف : ٤) والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ﴿ثُمَّ﴾ تقتضي التأخير، وكلمة كان تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض، وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرناه، بقي على لفظ الآية سؤالات.


الصفحة التالية
Icon