القول الثاني : أنقوله تعالى :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السموات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع، ونظيره قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني ؟
قال الوتد : أسألمن يدقني، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي.
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره، وقد بينا أن قوله ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السموات والملائكة، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء، وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السموات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السموات، ثمإنه تعالى أسكنهم فيها، وأيضاً ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر، بل هي أعلى من مصاعد أفهمامهم ومرامي أوهامهم، ثم قال :﴿وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ﴾ وهي النيرات التي خلقها في السموات، وخص كل واحد بضوء معين، وسر معين، وطبيعة معينة، لايعرفها إلا الله، ثم قال :﴿وَحِفْظًا ﴾ يعني وحفظناها حفظا، يعني من الشياطين الذين يسرتقون السمع، فأعد لكل شيطان نجماً يرميه به ولا يخطئه، فمنها ما يحرق، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلاً، وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم عن خلق السموات والأرض فقال :"خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين/ وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم الخميس السماء، وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة ـ ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد ؟
قال ـ ثم استوى على العرش ـ قالوا : ثم استراح ـ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم" فنزل قوله تعلاى :﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ (ق : ٣٨).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٧
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل، قال :﴿ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٧
٥٥٩
اعلم أن الكلام إنما ابتدىء من قوله ﴿أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾ (فصلت : ٦) واحتج عليه بقوله ﴿قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ﴾ (فصلت : ٩) وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به، وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية ؟
ولما تمم تلك الحجة قال :﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذٍ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال :﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ﴾ بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها وأصروا على الجهل والتقليد ﴿فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ﴾ والإنذار هو : التخويف، قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان، وقرىء ﴿صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ قال صاحب"الكشاف" وهي المرة من الصعق.
ثم قال :﴿إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ وفيه وجهان الأول : المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما جكى الله تعالى عن الشيطان قوله ﴿ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ (الأعراف : ١٧) يعني لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة، ويقول الرجل : استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩
السؤال الثاني : المعنى : أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم، فإن قيل : الرسل الذين جاؤا من قبلهم ومن بعدهم، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاؤهم ؟
قلنا : قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاؤهم.


الصفحة التالية
Icon