ثم قال :﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ يعني أن الرسل الذي جاؤهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، قال صاحب "الكشاف" أنفي قوله ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله.
ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا ﴿لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لانزَلَ ملائكة ﴾ يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل، وقالوا الدليل على كونهم كاذبي أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زرمة الملائكة/ لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا ﴿فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ﴾ معناه : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وهو المراد من قوله ﴿فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِه كَـافِرُونَ﴾.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام، وقوله ﴿أُرْسِلْتُم بِه ﴾ ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأبياء رسلاً، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ (الشعراء : ٢٧). روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا بيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ؟
أنت خير أم عبد المطلب ؟
أنت خير أم عبد الله ؟
لم تشتم ألهتنا وتضللنا ؟
فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ساكت، فلما فزع قال : بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم} إلى قوله إلى قوله ﴿صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احتبس عنهم قالوا، لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت : فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدتهبالرحم، ولقد علمت أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩
واعلم أنه تعالى لما بيّن كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بيّن خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال :﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وهذا لاستكبار فيه وجهان الأول : إظهارالنخوة والكبر، وعدم الالتفات إلى الغير والثاني : الاستعلاء على الغير واستخدامهم، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالو ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم، فقال :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى، خاضعين لأوامره ونواهيه.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة صلى الله عليه وسلّم، فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله ﴿اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (الذريات : ٥٨) فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة، لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي، فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة ؟
قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر.
ثم قال :﴿وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة.
واعلم أن نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وقوله ﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩


الصفحة التالية
Icon