واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق، فقوله ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله ﴿وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ مضاد للتعظيم للخالق، وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى، فلهذا المعنى سلّط الله العذاب عليهم فقال :﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ وفي الصرصر قولان أحدهما : أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها، وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب، وقيل من الصرة والصيحة، ومنه قوله تعالى :﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُه فِى صَرَّةٍ﴾ (الذاريات : ٢٩) والقول الثاني : أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها، وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى :﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ (آل عمران : ١١٧) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات" وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي، والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته.
وأما قوله ﴿فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿نَّحِسَاتٍ﴾ بسكون الحاء والباقون بكسر الحاء، قال صاحب "الكشاف" يقال نحس نحساً نقيض سعد سعداً فهو نحس، وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو نصف بمصدر.
المسألة الثانية : استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه ا لآية على أن بعض الأيام قد يكون نحساً وبعضها قد يكون سعداً، وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى، أجاب المتكلمون بأن قالوا ﴿أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف، وأيضاً قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها، أجاب المستدل ا لأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايراً لذلك العذاب الذي وقع فيها.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٥٩
ثم قال تعالى :﴿عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ أي عذاب الهوا ن والذل، والسبب فيه أنهم استكبروا، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم.
ثم قال تعالى ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى ﴾ أي أشد إهانة وخزياً ﴿وَهُمْ لا يُنصَرُونَ﴾ أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم.
ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال :﴿وَأَمَّا ثَمُودُ﴾ قال صاحب "الكشاف" قرىء ﴿ثَمُودُ﴾ بالرفع والنصب منوناً وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرىء بضم الثاء وقوله ﴿فَهَدَيْنَـاهُمْ﴾ أي دللناهم على طريق الخير والشر ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
واعلم أن صاحب "الكشاف" ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإقضاء إلى البغية لم يحصل، فثبت أن قيد مفضياً إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.


الصفحة التالية
Icon