ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية، وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم، إذا عرفت هذا، فنقول : إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى :﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كانالإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة، أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله ﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾ يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٧
ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ ﴾ وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال :﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ﴾ (فصلت : ٢٥) ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن الملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية، والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطبية الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون : كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى المشي، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلّم :"لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ ﴾ ثم قال :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ قال ابن عباس :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أي ما تتمنون، كقوله تعالى :﴿لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ﴾ (يس : ٥٧) فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ وبين قوله ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ قلنا : الأقرب عندي أن قوله ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ إشارة إلى الجنة الجسمانية، وقوله ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله ﴿دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (يونس : ١٠).
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٧
ثم قال :﴿نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ والنزل : رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال، قال العارفون : دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفسية بعدها، وتلك الخلع النفسية ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام، نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٧
٥٦٨
اعلم أن في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon