المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول ﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ﴾ (فصلت : ٥) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة، فقالوا ﴿لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾ (فصلت : ٢٦) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات، ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، وعبّر عن هذا المعنى فقال :﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَـالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة. وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان : التام، وفوق التام، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا ﴾ (فصلت : ٣٠) إشارة إلى المرتبة الأولى، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ فهذا أيضاً وجه حسن في نظم هذه الآيات.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٦٨
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصاباً وافياً من العلوم الإلهية الكشفية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن.
المسألة الثانية : من الناس من قال المراد من قوله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ﴾ هو الرسول صلى الله عليه وسلّم، ومنهم من قال هم المؤذنون، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه، والدعوة إلى الله مراتب :
فالمرتبة الأولى : دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها : أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولاً، ثم الدعوة بالسيف ثانياً، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها : أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها : أن نفوسهم أققوى قوة، وأرواحهم أصفى جورهاً، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل، فكانت دعوتهم أفضل ورابعها : أن النفوس على ثلاثة أقسام : ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول : العوام والقسم الثاني : هم الأولياء والقسم الثالث : هم الأنبياء/ ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلّم :"علماء أمتي كأنبياء إسرائيل" وإذا عرفت هذا فنقول : إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان : الكمال في الذات، والتكميل للغير، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى، وكانت ادرجاتهم أفضل وأكمل، إذا عرفت هذا فنقول : الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان : العلم والقدرة، أما العلماء، فهم نواب الأنبياء في العلم، وأما الملوك، فهم نواب الأنبياء في القدرة، والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأوراح، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد. وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء، ثم العلماء على ثلاثة أقسام : العلماء بالله، والعلماء بصفات الله، والعلماء بأحكام الله. أما العلماء بالله، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم ﴿يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (البقرة : ٢٢٩) وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا ينهاية لها، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجت لا نهاية لها، وأما الملوك فهم أيضاً يدعون إلى دين الله بالسيف، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار، وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولاً ضعيفاً، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة، فكان ذلك داخلاً تحت الدعاء إلى الله، وأما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطاً بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة، فهذا هو الكلام، في مراتب الدعوة إلى الله.


الصفحة التالية
Icon