واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان : عالم الجسمانيات وأعظمها السموات، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ﴾ (النبأ : ١) لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات، فقال :﴿رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـانِا لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ (النبأ : ٣٧) ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات، فقا ل ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ (النبأ : ٣٨) فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، فقال :﴿تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ﴾ ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات، فقال :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ فهذا ترتيب شريف وبيان باهر.
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثر لا يقبل الأثر، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام، ومتأثر لا يؤثر، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول/ ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة، وهو المرتبة المتوسطة، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان : تعلق بعالم الجلال والكبرياء، وهو تعلق القبول، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات، وإذا كان كذلك فلها وجهان : وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني. إذا عرفت هذا فنقول :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٠
قوله تعالى :﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء، وقوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ ﴾ إشا رة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق، إذا عرفت هذا فنقول : أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة، فقد اشتملت على أمرين : أحدهما : التسبيح، وثانيهما : التحميد، لأن قوله ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ يفيد هذين الأمرين، والتسبيح مقدم على التحميد، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي، مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره، فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد، ولهذا قال :﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.
وأما الجهة الثانية : وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات، فالإشارة إليها بقوله ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ ﴾ والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار، وقد قال تعالى :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة ﴾ فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم ؟
، قلنا الجواب : عنه من وجوه :
الأول : أن قوله ﴿لِمَن فِى الارْضِ ﴾ لا يفيد العموم، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض، ولو كان قوله ﴿لِمَن فِى الارْضِ ﴾ صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني : هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حم المؤمن فقال :﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ (غافر : ٧) الثالث : يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا ﴾ إلى أن قال :﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (فاطر : ٤١) الرابع : يجوز أن يقال إنهم ستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا في الحقيقة استغفار.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٠