المسألة الرابعة : قوله ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ يدل على كونه تعالى سامعاً للمسموعات مبصراً للمرئيات، فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على طاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلاباً يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو السماع، وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي، فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة، وذلك على الله محال، فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب : الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه، وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تتموج ذلك الهواء. وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة، فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه، فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة، وهذا يدل على أن الرؤية مغايرة لنفس ذلك الانطباع، وإذا ثبت هذا فنقول لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه، فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر، فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعاً كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعاً، فنقول ظاهر قوله ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ يدل على كونه سميعاً بصيراً فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر/ والتأثر في حق الله تعالى ممتنع، فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعاً، وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله، وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه، فإن قال قائل قوله ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر، مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين ؟
فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٨
أما قوله تعالى :﴿لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى : فاطر السموات والأرض والأصنام ليست كذلك، وأيضاً فهو خالق أنفسنا وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا، والأصنام ليست كذلك، وأيضاً فله مقاليد السموات والأرض والأصنام ليست كذلك، والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم، فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية ؟
فقوله ﴿لَه مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض، فمقاليد السموات الأمطار، ومقاليد الأرض النبات، وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ (الزمر : ٥٢) لأن مفاتيح الأرزاق بيده ﴿إِنَّه بِكُلِّ شَىْءٍ﴾ من البسط والتقدير ﴿عَلِيمٌ﴾.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٥٩٨
٦٠١
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله ﴿كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الشورى : ٣) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وآبراهيم وموسى وعيسى، هذا هو المقصود من لفظ الآية، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها : أنه قال في أول الآية
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠١


الصفحة التالية
Icon