﴿مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ وفي آخرها ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ﴾ وفي الوسط ﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ فما الفائدة في هذا التفاوت ؟
وثانيها : أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال :﴿مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال :﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إِبْرَاهِيمَ﴾ وثالثها : أنه يصير تقدير الآية : شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله ﴿شَرَعَ لَكُم﴾ خطاب الغيبة وقوله ﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ خطاب الحضور، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ (المائدة : ٤٨) فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع/ وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا ﴾ أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة، كما قال يوسف عليه السلام :﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ (يوسف : ٣٩) وقال تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء : ٢٥) واحتج بعضهم بقوله ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا﴾ على أن النبي صلى الله عليه وسلّم في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل، ومحل ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ إما نصب بدل من مفعول ﴿شَرَعَ﴾ والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع ؟
فقيل هو إقامة الدين ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾ عظم عليهم وشق عليهم ﴿مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه ﴾ من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع، بدليل أن الكفار قالوا ﴿أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص : ٥) وههنا مسائل :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠١
المسألة الأولى : احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع، والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن اصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه ﴾ مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل، وبيان منفعته من وجوه الأول : أن للنفوس تأثيرات، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني : أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث : أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى ﴿وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا ﴾ (الأنفال : ٤٦).


الصفحة التالية
Icon