واعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه الأول : أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصاحات روضات الجنات، والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى الثاني : أنه تعالى قال :﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وقوله ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ﴾ يدخل في باب غير المتناهي لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها لثالث : أنه تعالى قال :﴿ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر الرابع : أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال :﴿الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾ وذلك يدل أيضاً على غاية العظمة، نسأل الله الفوز بها والوصول إليها.
واعمل أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم هذا الكتاب الشريف العالي وأودع فيه الثلاثة أقسام الدلائل وأصناف التكاليف، ورتب على الطاعة الثواب، وعلى المعصية العقاب، بين أني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً عاجلاً ومطلوباً حاضراً، لئلا يتخيل جاهل أن مقصود محمد صلى الله عليه وسلّم من هذا التبليغ المال والجاه فقال :﴿قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الناس في هذه الآية ثلاثة أقوال :
الأول : قال الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى بن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله ﴿قُل لا أَسْـاَلُكُمْ﴾ على ما أدعوكم إليه ﴿أَجْرًا إِلا﴾ أن تودوني لقرابتي منكم، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٤
والقول الثاني : روى الكلبي عن بن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي صلى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة، فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم، فنزل قوله تعلى :﴿قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أي على الإيمان إلا أنتودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه.
القول الثالث : ما ذكره الحسن فقال : إلا أن تودوا إلى الله فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح، فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب، وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب، فإن قيل الآية مشكلة، ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لايجوز ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرّحوا بنفي طلب الأجرة، فذكر في قصة نوح عليه السلام ﴿وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍا إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (الشعراء : ١٠٩) وكذا في قصة هود وصالح، وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام، ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النوبة والرسالة أولى الثاني : أنه صلى الله عليه وسلّم صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال :﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ (سبأ : ٤٧) وقال :﴿قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص : ٨٦) الثالث : العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى :﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ﴾ (المائدة : ٦٧) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء الرابع : أن النبوة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (البقرة : ٢٦٩) وقال في صفة الدنيا ﴿قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ (النساء : ٧٧) فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس : أن طلب الأجر كان يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة، وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجراً على التبليغ والرسالة، وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال، والجواب عنه : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة، بقي قوله ﴿إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى ﴾ نقول الجواب عنه من وجهين الأول : أن هذا من باب قوله :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٤
ولا عيب غير أن سيوفهم


الصفحة التالية
Icon