المسألة الثالثة : قال خباب بن الأرث فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها، وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿يُنَزِّلُ﴾ خفيفة والباقون بالتشديد، ثم نقول ﴿بِقَدَرٍ﴾ بتقدير يقال قدره قدراً وقدراً ﴿إِنَّه بِعِبَادِه خَبِيرُا بَصِيرٌ﴾ يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم، ولما بيّن تعالى أنه لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنه علم أن تلك الزيادة تضرهم في دينهم بين أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه فقال :﴿وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ قرأ نافع وابن عامر وعاصم ﴿يُنَزِّلُ﴾ مشددة والباقون مخففة، قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿قَنَطُوا ﴾ بفتح النون وكسرها، وإنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتم، فكان إقدام صاحبه على الشكر أكثر ﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَه ﴾ أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب، وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له "اشتد القحط وقنط الناس فقال : إذن مطروا" أراد هذه الآية، ويجوز أن يريد رحمته الواسعة في كل شيء كأنه قيل ينزل الرحمة التي هي الغيث وينشر سائر أنواع الرحمة ﴿وَهُوَ الْوَلِىُّ﴾ الذي يتولى عباده بإحسانه و﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة، ثم ذكر آية أخرى تدل على إلهيته فقال :﴿وَمِنْ ءَايَـاتِه خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ فنقول : أما دلالة خلق السموات والأرض على وجود الإله الحكيم فقد ذكرناها وكذلك دلالة وجود الحيوانات على وجود الإله الحكيم، فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة ؟
قلنا فيه وجوه الأول : أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم يقال بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله واحد منهم ومنه قوله تعالى :﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ (الرحمن : ٢٢) الثاني : أن الدبيب هو الحركة، والملائكة لهم حركة الثالث : لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٨
ثم قال تعالى :﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ قال صاحب "الكشاف" : إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال تعالى :﴿وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ (الليل : ١) ومنه ﴿إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ والمقصود أنه تعالى خلقها متفرقة، لا لعجز ولكن لمصلحة، فلهذا قال :﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ يعني الجمع للحشر والمحاسبة، وإنما قال :﴿عَلَى جَمْعِهِمْ﴾ ولم يقل على جمعها، لأجل أن المقصود من هذا الجمع المحاسبة، فكأنه تعالى قال : وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير، واحتج الجبائي بقوله ﴿إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ على أن مشيئته تعالى محدثة بأن قال : إن كلمة ﴿إِذَآ﴾ تفيد ظرف الزمان، وكلمة ﴿يَشَآءُ ﴾ صيغة المستقبل، فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المعين من المستقبل فائدة، ولما دل قوله ﴿إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ﴾ على هذا التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة والجواب : أن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة، أي مشيئة الله، فقد دخلتا أيضاً على لفظ القدير فلزم على هذا أن يكون كونه قادراً صفة محدثة، ولما كان هذا باطلاً، فكذا القول فيما ذكره، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ بغير فاء، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة، والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم، وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي، وبما كسبت خبره، والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم، وتقدير الثاني تضمين كلمة : ما معنى الشرطية.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٠٨


الصفحة التالية
Icon