ثم قال تعالى :﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة، ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع، ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني، ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات :
الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل الله، بدليل قوله تعالى :﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله، فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، عن ابن عباس : كبير الإثم، هو الشرك، نقله صاحب "الكشاف" : وهو عندي بعيد، لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية، وبقوله ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ ما يتعلق بالقوة الغضبية، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران، لأن الغضب على طبع النار، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة/ فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ، والله أعلم.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ والمراد منه تمام الانقياد، فإن قالوا أليس أنه لما جعل الإيمان شرطاً فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟
قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور. ولما ذكر هذا الشرط قال :﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾ والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة، لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١١
وأما قوله تعالى :﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، ومعنى قوله ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أي ذو شورى.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه، وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء، فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول : أنه لما ذكر قبله ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله ﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ ؟
الثاني : وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى :﴿وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ (البقرة : ٢٣٧) وقال :﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان : ٧٢) وقال :﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ﴾ (الأعراف : ١٩٩) وقال ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ا وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ﴾ (النحل : ١٢٦) فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب : أن العفو على قسمين أحدهما : أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه، والآيات في العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره، فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً، وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلّم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"دونك فانتصري" وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط، ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة، ثم بيّن أن العفو أولى بقوله ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللَّه ﴾ فزال السؤال والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١١
٦١٦
اعلم أنه تعالى لما قال :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ (الشورى : ٣٩) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل فإن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السموات والأرض، فلهذا السبب قال :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon