ثم قال تعالى :﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه ﴾ أي ظالم الظالم إياه، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول ﴿فَ أولئك ﴾ يعني المنتصرين ﴿مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾ كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة/ فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقاً أو بشرط عدم السريان، وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة، فإذا كان تجويزه معلقاً بشرط عدم السريان، وكان هذا الشرط مجهولاً وجبأن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة، لأن الأصل فيها هو الحرمة، والحل إنما يحصل معلقاً على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذبك أصل الحرمة، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضموناً لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٦
ثم قال :﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ﴾ أي يبدأون بالظلم ﴿وَيَبْغُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّا أُوالَـا ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ﴾ يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرقة فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية، فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن وَلِىٍّ مِّنا بَعْدِه ﴾ أي فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه أي من بعد إضلاه الله أياه، وهذا صريح في جواز الإضلال من الله تعالى، وفي أن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى، قال القاضي المراد من يضلل الله عن الجنة فما له من ولي من بعده ينصره والجواب : أن تتقيد الإضلال بهذه الصورة المعينة خلاف الدليل، وأيضاً فاللهتعالى ما أضله عن الجنة على قولكم بل هوأضل نفسه عن الجنة.
ثم قال تعالى :﴿وَتَرَى الظَّـالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ والمراد أنهم يطلبون لرجوع إلى الدنيا لعظم ما يشاهدون من العذاب، ثم ذكر حالهم عند عرض النار عليهم فقال :﴿وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ أي حال كونهم خاشعين حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذل، ثم قال :﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ ﴾ أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة كما ترى الذي يتيقن أن يقتل فإنه ينظر إلى السيف كأنه لا يقدر على أن يفتح أجفانه عليه ويملأ عينيه منه كما يفعل في نظره إلى الحبوبات، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار إنهم يحشرون عمياً فكيف قال ههنا إنهم ينظرون من طرف خفي ؟
قلنا لعلهم حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال :﴿وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ ﴾ قال صاحب "الكشاف" :﴿يَوْمَ الْقِيَـامَةِ ﴾ إما أن يتعلق بخسروا أو يكون قول المؤمنين واقعاً في الدنيا، وإما أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٦
ثم قال :﴿أَلا إِنَّ الظَّـالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ أي دائم قال القاضي، وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب : أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى :﴿وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ (البقرة : ٢٥٤) والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال بعده هذه الآية ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّه ﴾ والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لأجل أن تشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة ومعلوم أن هذا لا يليق إلا بالكفار ثم قال :﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن سَبِيلٍ﴾ وذلك يدل على أن المضل والهادي هو الله تعالى على ما هو قولنا ومذهبنا والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٦
٦١٦


الصفحة التالية
Icon