البحث الرابع : هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة ؟
المشهور أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من غير واسطة، بدليل قوله تعالى :﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ (طه : ١٣) وقيل إن محمداً صلى الله عليه وسلّم سمعه أيضاً لقوله تعالى :﴿فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى ﴾ (النجم : ١٠).
البحث الخامس : أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة، فبتقدير أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلّم في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة، ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى، وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى، لاحتمال أنه حصل الاشتباه في الصوت، إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٩
المسألة السابعة : دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة، فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا، الأظهر منعه، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل.
المسألة الثامنة : قرأ نافع ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا﴾ برفع اللام، فيوحي بسكون الياء ومحله رفع على تقدير، وهو يرسل فيوحي، والباقون بالنصب على تأويل المصدر، كأنه قيل ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً إو إسماعاً لكلامه من وراء حجاب أو يرسل، لكن فيه إشكال لأن قوله وحياً أو إسماعاً اسم وقوله ﴿أَوْ يُرْسِلَ﴾ فعل، وعطف الفعل على الاسم قبيح، فأجيب عنه بأن التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحياً أو يسمع إسماعاً من وراء حجاب أو يرسل رسولاً.
المسألة التاسعة : الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي، وقال بعضهم : يجوز ذلك لقوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ا أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَـاتِه ا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله/ وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة، باطل من وجهين آخرين الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي" فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى ؟
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر" فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى ؟
المسألة العاشرة : قوله تعالى :﴿فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَآءُ ﴾ يعني فويحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله، وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه، وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه، بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص، وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله ﴿مَّا يَشَآءُ ﴾ والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦١٩
ثم قال تعالى في آخر الآية ﴿إِنَّه عَلِىٌّ حَكِيمٌ﴾ يعني أنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجري أفعاله على موجب الحكمة، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام، وأخرى بإسماع الكلام، وثالثاً بتوسيط الملائكة الكرام، ولما بيّن الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام، قال :﴿وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ والمراد به القرآن وسماه روحاً، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر.
ثم قال تعالى :﴿مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ﴾ واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر، وذكروا في الجواب وجوهاً الأول :﴿مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ﴾ أي القرآن ﴿وَلا الايمَـانُ﴾ أي الصلاة، لقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ (البقرة : ١٤٣) أي صلاتكم الثاني : أن يحمل هذا على حذف المضاف، أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان، يعني من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن الثالث : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد الرابع : الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به، وإنه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى، بل إنه كان عارفاً بالله تعالى، وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية. فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوّة.


الصفحة التالية
Icon