المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها : قوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا لَه مِنْ عِبَادِه جُزْءًا ﴾ (الزخرف : ١٥) وثانيها : قوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ (الزخرف : ١٩) وثالثها : قوله ﴿وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم ﴾ (الزخرف : ٢٠) ورابعها : قوله ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف : ٣١) وخامسها : هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلاً أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم، فأما أن ذلك المثل كيف كان، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً كلها محتملة فالأول : أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني : روي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ (الأنبياء : ٩٨) قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم :"بل لجميع الأمم" فقال خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيراً وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيراً والملائكة يعبدون، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم وفرح القوم وضحكوا وضجوا، فأنزل الله تعالى :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٤٣
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ا أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ (الأنبياء : ١٠١) ونزلت هذه الآية أيضاً والمعنى، ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث : في التأويل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم، قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم، ثم عند هذا قالوا ﴿خَيْرٌ أَمْ هُوَا مَا﴾ يعني أآلهتنا خير أم محمد، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا : إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام، وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى، ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل/ فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم : إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون، ومنهم من فرق، أما القراءة بالضم فمن الصدود، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة.
ثم قال تعالى :﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَا ﴾ أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ مبالغون في الخصومة، وذلك لأن قوله ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ لا يتناول الملائكة وعيسى، وبيانه من وجوه الأول : أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني : أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه، فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله، أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث : أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع : أن قوله ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه، والخاص مقدم على العام.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٤٣


الصفحة التالية
Icon