ثم قال :﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله ﴿ أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ﴾ (المؤمنون : ١٠، ١١) ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم، ذكر ههنا حال الفاكهة، فقال :﴿لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾.
واعلم أنه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم إلى العرب أولاً، ثم إلى العالمين ثانياً، والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة، فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى، تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٥١
٦٥١
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد، أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القاضي على القطع بوعيد الفسق بقوله ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ ولفظ المجرم يتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم، وقوله ﴿خَـالِدُونَ﴾ يدل على الخلود، وقوله أيضاً ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ يدل على الخلود والدوام أيضاً والجواب : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على أن المراد من لفظ المجرمين ههنا الكفار، أما ما قبل هذه الآية فلأنه قال :﴿عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا﴾ (الزخرف : ٦٨، ٦٩) فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين، فإنهم يدخلون تحت قوله ﴿الْمُتَّقِينَ * يَـاعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم، فوجب أن يكون داخلاً تحت ذلك الوعد، ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله ﴿جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ﴾ والمراد بالحق ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن، فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على أن المراد من المجرمين الكفار، والله أعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٥١
المسألة الثانية : أنه تعالى وصف عذاب جهنم في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما : الخلود، وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أنه عبارة عن طول المكث ولا يفيد الدوام وثانيها : قوله :﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ أي لا يخفف ولا ينقص من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت ونقص حرها وثالثها : قوله ﴿وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ والمبلس اليائس الساكت سكوت يائس من فرج، عن الضحاك يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يقفل عليه فيبقى فيه خالداً لا يرى، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء ﴿وَهُمْ فِيهَا﴾ أي وهم في النار.
المسألة الثالثة : احتج القاضي بقوله تعالى :﴿وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ﴾ فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله ﴿وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ﴾ وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه ؟
أو ليس لو أثبتناه ظلماً لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم، فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عزّ وجل فقط، بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معاً، فلم يكن ذلك ظلماً من الله. قلنا : عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالماً لهم، وذلك محال لأن من يكون ظالماً في فعل، فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق، فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين ؟
فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه، ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد، وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذٍ يلزمك ما أوردته علينا.
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره، إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه وارداً على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم.
المسألة الرابعة : قرأ ابن مسعود ﴿مِّن مَّالِ﴾ بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ ﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا﴾ فقال : ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم واجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٥١


الصفحة التالية
Icon