والقول الثاني : في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، قالو فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول : أن قوله ﴿يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ﴾ يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز الثاني : أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخاناً مبيناً والثالث : أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس، وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسلو الله صلى الله عليه وسلّم الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" رواه صاحب "الشكاف" وروى القاضي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"باكروا بالأعمال ستاً، وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة" أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون ﴿رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ﴾ وهذ إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك، لأن عند صهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا ﴿رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ﴾ ولم يصح أيضاً أن يقال لهم ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَآاـاِدُونَ﴾ والجواب : لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة، ثم إن الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإاذ زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذ كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه والله اعلم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٣
ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله ﴿بِدُخَانٍ﴾ وفي قوله ﴿هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قولان الأول : أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني : قال الجرجاني صاحب "النظم" هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدو فاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب.
ثم قال :﴿رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ﴾ فإن قلنا التقدير : يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد، وعلى القول الثاني الدخان المهلك ﴿إِنَّا مْؤْمِنُونَ﴾ أي بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
ثم قال تعالى :﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى ﴾ يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من لمعجزات القاهرة والبينات الباهرة ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ ولم يلتفتوا إليه ﴿وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمداً يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُه بَشَرٌا لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ﴾ (النحل : ١٠٣) وكقوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ﴾ (الفرقان : ٤) ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.