ثم قال :﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلا﴾ قرأ بن كثير ونافع ﴿فَأَسْرِ﴾ موصولة بالألف والباقون مقطوعة لألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون، أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سبباً لهلاكهم ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ﴾ وفي الرهو قولان أحدهما : أنه الساكن يقال عيش راه إذا كان خافضاً وادعاً، وافعل ذلك سهواً رهواً أي ساكناً بغير تشدد، أراد موسى عليه السلام لما جاوز لبحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره الله تعالى بأن يرتكه ساكناً على هيئته قاراً على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبساً حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم والثاني : أن لرهو هو الفرجة الواسعة، والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني الطريق الذي أظهره الله فيما بين لبحر أنهم جند مفرقون، يعني اترك الطريق كما كان يدخلوا فيغرقوا، وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم وإيذائهم.
ثم قال تعالى :﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ دلت هذه الآية على أنه تعالى أغرقهم، ثم قال بعد غرقهم هذا الكلام، وبيّن تعالى أنهم تركوا هذه لأشياء الخمسة، وهي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والمراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة، وقيل المنابر التي كانوا يمدحون فرعون عليها ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ﴾ قال علماء اللغة نعمة العيش، بفتح النون حسنه ونضارته، ونعمة الله إحسانه وعطاؤه، قال صاحب "الكشاف" النعمة بالفتح من لتنعم وبالكسر من ا لإنعام، وقرىء فاكهين وفكهين كذلك الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على تقدير أن الأمر ﴿كَذَالِكَا وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ﴾ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل كانوا مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٤
ثم قال تعالى :﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ﴾ وفيه وجوه : الأول : قال الواحدي في "البسيط" روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه" وتلا هذه الآية، قال وذلك لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم، وهذا قول أكثر المفسرين.
القول الثاني : التقدير : فم بكت عليهم أهل السماء وأهل الأرض، فحذف المضاف والمعنى ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
والقول الثالث : أن عادة النس جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأن : إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله وبكت الريح والسماء والأرض، ويريدون المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكذب. ونقل صاحب "الكشاف" : عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض".
وقال جرير :
الشمس طالعة ليس بكاسفة
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم، وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، فما كانوا في هذا الحد، بل كانوا دون ذلك، وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم.
ثم قال :﴿وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٤
٦٦٨
علم أنه تعالى لما بيّن كيفية إهلاك فرعون وقومه بيّن كيفية إحسانه إلى موسى وقومه. واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال :﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسرائيل مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة.


الصفحة التالية
Icon