ثم قال :﴿مِن فِرْعَوْنَ ﴾ وفيه وجهان : الأول : أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني : أن يكون فرعون بدلاً من لعذاب المهين كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم. قال صاحب "الكشاف" وقرىء ﴿مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ وعلى هذه القراءة (فالمهين) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين. وفي قراءة ابن عباس ﴿مِن فِرْعَوْنَ ﴾ وهو بمعنى الاستفهام وقوله ﴿إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ﴾ جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ؟
ثم عرف حاله بقوله ﴿إِنَّه كَانَ عَالِيًا مِّنَ﴾ أي كان عالي الدرجة في طبقة المفسرين، ويجوز أن يكون المراد ﴿فِرْعَوْنَا إِنَّه كَانَ عَالِيًا﴾ لقوله ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ﴾ (القصص : ٤) وكان أيضاً مسرفاً ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية، ولما بيّن الله تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبيّن أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال :﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ وفيه بحثان :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٨
البحث الأول : أن قوله ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ في موضع الحال ثم فيه وجهان أحدهما : أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني : أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال.
البحث الثاني : ظاهر قوله ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم، وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران : ١١٠).
ثم قال تعالى :﴿وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ﴾ مثل فلق البحر، وتظليل الغعمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من الآيت القاهرة لتي ما أظهر الله مثلها على أحد سواهم ﴿وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ﴾ أي نعمة ظاهرة، لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضاً بالنعمة اختباراً ظاهراً ليتميز لصديق عن الزنديق، وههنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال :﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ أي بل هم في شك من البعث والقيامة، ثم بيّن كيفية إصرارهم على كفرهم، ثم بيّن أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة/ ثم بيّن كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو كون كفار مكة منكرين للبعث، فقال :﴿إِنَّ هَـا ؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا : إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين ؟
قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة، كما أنكم حال كونكم نطفاً كنتم أمواتاً وقد تعقبها حياة، وذلك قوله ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذاً بين هذا الكلام وبين قوله ﴿إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ هذا ما ذكره صاحب "الكشاف". ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر، فيقال قوله ﴿قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاولَى ﴾ يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى، نهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية ألبتة، ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب "الكشاف".
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٦٨


الصفحة التالية
Icon