واعلم أن النعم على قسمين : نعم الدين، ونعم الدنيا، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين، فقل ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إسرائيل الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكنن مغايراً لصاحبه، أما الكتاب فهو التوراة، وأما الحكم ففيه وجوه، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه، وأما النبوة فمعلومة، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى :﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ ﴾ وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى، ولما بيّن تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيباً وافراً، قال :﴿وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد : وفضلناهم عن عالمي زمانهم.
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٨١
ثم قال تعالى :﴿وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ مِّنَ الامْرِ ﴾ وفيه وجوه الأول : أنه آتاهم بينات من الأمر، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني : قال ابن عباس : يعني بيّن لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث : المراد ﴿وَءَاتَيْنَـاهُم بَيِّنَـاتٍ﴾ أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم، والمراد معجزات موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى :﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ ﴾ وهذا مفسر في سورة ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الشورى : ١، ٢) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة، لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.
ثم قال تعالى :﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا/ فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسؤوه، وذلك كالزجر لهم، ولما بيّن تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والسحد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بأن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق، فقال تعالى :﴿ثُمَّ جَعَلْنَـاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الامْرِ﴾ أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل، قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا ﴾ أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقاً للعذاب، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، ثم بيّن تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وفي الآخرة، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون لامهتدون، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه، وما أبين الفرق بين الولايتين، ولما بيّن الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة، قال :﴿هَـاذَا بَصَـا اـاِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحاً وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن، ولم بيّن لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر، فقال :﴿مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا﴾ وفيه مباحث :
جزء : ٢٧ رقم الصفحة : ٦٨١
البحث الأول :﴿أَمْ﴾ كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على شيء آخر، سواء كان ذلك المعطوف مذكوراً أو مضمراً، والتقدير ههنا : أفيعلم المشركون هذا، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟
البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم، قال تعالى :﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ (الأنعام : ٦٠).