ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى، وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.
وأما قوله تعالى :﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة، وهو أن كونه تعال، عادلاً خالقاً بالحق منزّهاً عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضاً أنه تعالى لما كان قادراً على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادراً على الإعادة ثانياً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادراً على الإحياء في المرة الأولى، وعلى كونه قادراً على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عمم الدليل فقال :﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السموات أو من الأرض، وإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن، إذ لو لم يكن ممكناً لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادراً على الإحياء في المرة الثانية.
ولما بيّن تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها : قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ وفيه أبحاث :
البحث الأول : عامل النصب في يوم تقوم يخسر، ويومئذ بدل من يوم تقوم.
البحث الثاني : قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها : قوله تعالى :﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾ قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم، قال الزجاج ومثله جذا يجذو، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء جاذية، قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازاً من الجثو، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى ا إِلَى كِتَـابِهَا﴾ على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة، وقوله ﴿إِلَى كِتَـابِهَا﴾ أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفى باسم الجسني كقوله تعالى :﴿وَوُضِعَ الْكِتَـابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾ (الكهف : ٤٩) والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة، قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
ثم قال تعالى :﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ﴾ والتقدير يقال لهم اليوم تجزون، فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى ؟
قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه ﴿يَنطِقُ عَلَيْكُم﴾ أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ﴾ الملائكة ﴿مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي نستكتبهم أعمالكم.
ثم بيّن أحوال المطيعين فقال :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِه ا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات، فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايراً للإيمان زائداً عليه.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتياً بالإيمان والأعمال الصالحة، والمعلق على مجموع أمرين يكون عدماً عند عدم أحدهما، فعند عدم الأعمال الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا : أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.
المسألة الثالثة : سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة، فوجب أن لا يكون الثواب واجباً على الله تعالى.
ثم قال تعالى :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon