المسألة الثانية : اللام في قوله تعالى :﴿لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ذكروا فيه وجهين : الأول : أن يكون المعنى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا، على وجه الخطاب كما تقول قال زيد لعمرو، ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة كقوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ (يونس : ٢٢) الثاني : قال صاحب "الكشاف" ﴿لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ لأجلهم يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وعندي فيه وجه الثالث : وهو أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين، وقالوا لهم لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون الذين أسلموا.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا الكلام أجاب عنه بقوله ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ والمعنى أنهم لما لم يقفوا على وجه كونه معجزاً، فلا بد من عامل في الظرف في قوله ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه ﴾ ومن متعلق لقوله ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ وغير مستقيم أن يكون ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ هو العامل في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، فما وجه هذا الكلام ؟
وأجاب عنه بأن العامل في إذ محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه ﴾ ظهر عنادهم ﴿فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ا إِمَامًا وَرَحْمَةً ﴾ كتاب موسى مبتدأ، ومن قبله ظرف /واقع خبراً مقدماً عليه، وقوله ﴿إِمَامًا﴾ نصب على الحال كقولك في الدار زيد قائماً، وقرىء ﴿وَمِن قَبْلِه كِتَـابُ مُوسَى ﴾ والتقدير : وآتينا الذي قبله التوراة، ومعنى ﴿إِمَامًا﴾ أي قدوة ﴿وَرَحْمَةً ﴾ يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام ﴿وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمن به وعمل بما فيه، ووجه تعلق هذا الكلام بما قبله أن القوم طعنوا في صحة القرآن/ وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الصعاليك، وكأنه تعالى قال : الذي يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وجعل هذا الكتاب إماماً يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا سلمتم كون التوراة إماماً يقتدى به، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلى الله عليه وسلّم حقاً من الله.
ثم قال تعالى :﴿وَهَـاذَا كِتَـابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا﴾ أي هذا القرآن مصدق لكتاب موسى في أن محمداً رسول حقاً من عند الله وقوله تعالى :﴿لِّسَانًا عَرَبِيًّا﴾ نصب على الحال، ثم قال :﴿لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ قال ابن عباس مشركي مكة، وفي قوله ﴿لِّتُنذِرَ﴾ قراءتان التاء لكثرة ما ورد من هذا المعنى بالمخاطبة كقوله تعالى :﴿لِتُنذِرَ بِه وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف : ٢) والياء لتقدم ذكر الكتاب فأسند الإنذار إلى الكتاب كما أسند إلى الرسول، وقوله تعالى :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ﴾ إلى قوله ﴿لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ﴾ (الكهف : ١/ ٢).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ قال الزجاج الأجود أن يكون قوله ﴿وَبُشْرَى ﴾ في موضع رفع، والمعنى وهو بشرى للمحسنين، قال ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى ﴿لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ وحاصل الكلام أن المقصود من إنزال هذا الكتاب إنذار المعرضين وبشارة المطيعين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
اعلم أنه تعالى لما قرر دلائل التوحيد والنبوّة وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها، ذكر بعد ذلك طريقة المحقين والمحققين فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا ﴾ وقد ذكرنا تفسير هذه الكلمة في سورة السجدة والفرق بين الموضعين أن في سورة السجدة ذكر أن الملائكة ينزلون ويقولون ﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾ (فصلت : ٣٠) وههنا رفع الواسطة من البين وذكر أنه ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ﴾ فإذا جمعنا بين الآيتين حصل من مجموعهما أن الملائكة يبلغون إليهم هذه البشارة، وأن الحق سبحانه يسمعهم هذه البشارة أيضاً من غير واسطة.


الصفحة التالية
Icon