المسألة السادسة : قال أصحابنا إن العبد طلب من الله تعالى أن يلهمه الشكر على نعم الله، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة الله تعالى، ولو كان العبد مستقلاً بأفعاله لكان هذا الطلب عبثاً، وأيضاً المفسرون قالوا المراد من قوله ﴿أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ﴾ هو الإيمان أو الإيمان يكون داخلاً فيه، والدليل عليه قوله تعالى :﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ (الفاتحة : ٦، ٧) والمراد صراط الذين أنعمت عليهم بنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا فنقول العبد يشكر الله على نعمة الإيمان، فلو كان الإيمان من العبد لا من الله لكان ذلك شكراً لله تعالى على فعله لا على فعل غيره، وذلك قبيح لقوله تعالى :﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾ (آل عمران : ١٨٨) فإن قيل : فهب أن يشكر الله على ما أنعم به عليه فكيف يشكره على النعم التي أنعم /بها على والديه ؟
وإنما يجب على الرجل أن يشكر ربه على ما يصل إليه من النعم، قلنا كل نعمة وصلت من الله تعالى إلى والديه، فقد وصل منها أثر إليه فلذلك وصاه الله تعالى على أن يشكر ربه على الأمرين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
وأما المطلوب الثاني : من المطالب المذكورة في هذا الدعاء، فهو قوله ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ﴾.
واعلم أن الشيء الذي يعتقد أن الإنسان فيه كونه صالحاً على قسمين : أحدهما : الذي يكون صالحاً عنده ويكون صالحاً أيضاً عند الله تعالى والثاني : الذي يظنه صالحاً ولكنه لا يكون صالحاً عند الله تعالى، فلما قسم الصالح في ظنه إلى هذين القسمين طلب من الله أن يوفقه لأن يأتي بعمل صالح يكون صالحاً عند الله ويكون مرضياً عند الله.
والمطلوب الثالث : من المطالب المذكورة في هذه الآية قوله تعالى :﴿وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى ﴾ لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ (إبراهيم : ٣٥) فإن قيل ما معنى ﴿فِى ﴾ في قوله ﴿وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى ﴾ ؟
قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة، قال بعد ذلك ﴿إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح، وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه.
واعلم أن الذين قالوا إن هذه الآية نزلت في أبي بكر، قالوا إن أبا بكر أسلم والداه، ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلا له، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو، وقوله ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ﴾ قال ابن عباس فأجابه الله إليه فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ولم يترك شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه، وقوله تعالى :﴿وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى ﴾ قال ابن عباس لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا، ولم يتفق لأحد من الصحابة أن أسلم أبواه وجميع أولاده الذكور والإناث إلا لأبي بكر.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿ أولئك ﴾ أي أهل هذا القول ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ قرىء بضم الياء على بناء الفعل للمفعول وقرىء بالنون المفتوحة، وكذلك نتجاوز وكلاهما في المعنى واحد، لأن الفعل وإن كان مبنياً للمفعول فمعلوم أنه لله سبحانه وتعالى، فهو كقوله ﴿يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ (الأنفال : ٣٨) فبيّن تعالى بقوله ﴿ أولئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ أن من تقدم ذكره ممن يدعو بهذا الدعاء، ويسلك هذه الطريقة التي تقدم ذكرها ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله، /فإن قيل ولم قال تعالى :﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ والله يتقبل الأحسن وما دونه ؟
قلنا الجواب من وجوه الأول : المراد بالأحسن الحسن كقوله تعالى :﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم﴾ (الزمر : ٥٥) كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان، أي عادلا بني مروان الثاني : أن الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب والأحسن ما يغاير ذلك، وهو وكل ما كان مندوباً واجباً.


الصفحة التالية
Icon