ثم قال تعالى :﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ﴾ والمعنى أنه تعالى يتقبل طاعاتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. ثم قال :﴿فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ ﴾ قال صاحب "الكشاف" ومعنى هذا الكلام مثل قولك : أكرمني الأمير في مائتين من أصحابه، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم وضمني في عدادهم، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين منهم، وقوله ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ مصدر مؤكد، لأن قوله ﴿نَتَقَبَّلُ﴾ وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز، والمقصود بيان أنه تعالى يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله تعالى فبيّن أنه صدق ولا شك فيه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية، فقال :﴿يُوعَدُونَ * وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ وفي هذه الآية قولان الأول : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى، وهو ﴿أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ واحتج القائلون بهذا القول على صحته، بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم ؟
فقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه ﴿وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾. والقول الثاني : أنه ليس المراد من شخص معين، بل المراد منه كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه وأنكره، وهذا القول هو الصحيح عندنا، ويدل عليه وجوه الأول : أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله ﴿ أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِا إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ﴾ ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه، وكان من سادات المسلمين، فبطل حمل الآية عليه، فإن قالوا : روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت، قال :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
﴿أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ﴾ من القبر، يعني أبعث بعد الموت ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ يعني الأمم الخالية، فلم أر أحداً منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان، وأين فلان وفلان ؟
إذا عرفت هذا فنقول قوله ﴿ أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله، وهم الذين حق عليهم القول، وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله ﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ لا إلى المشار إليه بقوله ﴿وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ﴾ هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل، وهو حسن والوجه الثاني : في إبطال ذلك القول، ما روي أن مروان لما خطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت : والله ما هو به، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه الوجه الثالث : وهو الأقوى، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة، ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية، وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق، وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر، وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية، وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة ألبتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين/ قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿أُفٍّ﴾ بالفتح والكسر بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال حس، علم أنه متوجع، واللام للبيان معناه هذا /التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غيركما، وقرىء ﴿أَتَعِدَانِنِى ﴾ بنونين، وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام، وقرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء، ففتح الأولى تحرياً للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما.
ثم قال :﴿أَنْ أَخْرِجْ﴾ أي أن أبعث وأخرج من الأرض، وقرىء ﴿أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ يعني ولم يبعث منهم أحد.
ثم قال :﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾ أي الوالدان يستغيثان الله، فإن قالوا : كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله ؟
قلنا الجواب : من وجهين الأول : أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل الفعل الثاني : يجوز أن يقال الباء حذف، لأنه أريد بالاستغاثة ههنا الدعاء على ما قاله المفسرون ﴿عَبْدُ اللَّهِ﴾ فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار، لأن الدعاء لا يقتضيه، وقوله ﴿وَيْلَكَ﴾ أي يقولان له ويلك ﴿مِنْ﴾ وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور، والمراد به الحث، والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥


الصفحة التالية
Icon