ثم قال :﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث حق، فيقول لهما ما هذا الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه ﴿إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ أي حقت عليهم كلمة العذاب، ثم ههنا قولان : فالذين يقولون المراد بنزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر، قالوا المراد بهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب هم القرون الذين خلوا من قبله، والذين قالوا المراد به ليس عبد الرحمن، بل كل ولد كان موصوفاً بالصفة المذكورة ؛ قالوا هذا الوعيد مختص بهم، وقوله ﴿فِى أُمَمٍ﴾ نظير لقوله ﴿فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ ﴾ وقد ذكرنا أنه نظير لقوله : أكرمني الأمير في أناس من أصحابه، يريد أكرمني في جملة من أكرم منهم.
ثم قال :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ﴾ وقرىء أن بالفتح على معنى آمن بأن وعد الله حق.
ثم قال :﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ وفيه قولان الأول : أن الله تعالى ذكر الولد البار، ثم أردفه بذكر الولد العاق، فقوله ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ خاص بالمؤمنين، وذلك لأن المؤمن البار بوالديه له درجات متفاوتة، ومراتب مختلفة في هذا الباب والقول الثاني : أن قوله ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ عائد إلى الفريقين، والمعنى ولكل واحد من الفريقين درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، فإن قالوا كيف يجوز ذكر لفظ الدرجات في أهل النار، وقد جاء في الأثر الجنة الدرجات، والنار دركات ؟
قلنا فيه وجوه الأول : يجوز أن يقال ذلك على جهة التغليب الثاني : قال ابن زيد : درج أهل الجنة يذهب علواً، ودرج أهل النار ينزلوا هبوطاً. الثالث : أن المراد بالدرجات المراتب المتزايدة، إلا أن زيادات أهل الجنة في الخيرات والطاعات، وزيادات أهل النار في المعاصي والسيئات.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ وقرىء بالنون وهذا تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه كأنه وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات، ولما بيّن الله تعالى أنه يوصل حق كل أحد إليه بين أحوال أهل العقاب أولاً، فقال :﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ قيل يدخلون النار/ وقيل تعرض عليهم النار ليروا أهوالها ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ قرأ ابن كثير ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ استفهام بهمزة ومدة، وابن عامر استفهام بهمزتين بلا مدة والباقون ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ بلفظ الخبر والمعنى أن كل ما قدر لكم من الطيبات والراحات فقد استوفيتموه في الدنيا وأخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها، وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال :"أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يومئذ خير قال بل أنتم اليوم خير ؟
"، رواه صاحب "الكشاف" قال الواحدي : إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، إلا أن هذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه، والدليل عليه قوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ (الأعراف : ٣٢) نعم لا ينكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والإنقباض، وحينئذ فربما حمله الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي، وذلك مما يجر بعضه إلى بعض ويقع في البعد عن الله تعالى بسببه.


الصفحة التالية
Icon