ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً﴾ والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها، فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئاً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم بيّن تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله، وقوله ﴿إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ﴾ بمنزلة التعليل، ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل تقول : ضربته إذ أساء، والمعنى ضربته لأنه أساء، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة فإن قوم عاد لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا.
ثم قال تعالى :﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ﴾ يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب وإنما كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
اعلم أن المراد ولقد أهلكنا ما حولكم يا كفار مكة من القرى، وهي قرى عاد وثمود باليمن والشام ﴿وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ﴾ بيناها لهم ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي لعلّ أهل القرى يرجعون، فالمراد بالتصريف الأحوال الهائلة التي وجدت قبل الإهلاك. قال الجبائي : قوله ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ معناه لكي يرجعوا عن كفرهم، دل بذلك على أنه تعالى أراد رجوعهم ولم يرد إصرارهم والجواب : أنه فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك لأجل الإرادة المذكورة، وإنما ذهبنا إلى هذا التأويل للدلائل الدالة على أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات.
ثم قال تعالى :﴿فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَا ﴾ القربان ما يتقرب به إلى الله تعالى، أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله حيث قالوا ﴿هَـا ؤُلاءِ شُفَعَـا ؤُنَا عِندَ اللَّه ﴾ (يونس : ١٨) وقالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ (الزمر : ٣) وفي إعراب الآية وجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" : أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين هو محذوف والثاني : آلهة وقرباناً حال، وقيل عليه إن الفعل المتعدي إلى مفعولين لا يتم إلا بذكرهما لفظاً، والحال مشعر بتمام الكلام، ولا شك أن إتيان الحال بين المفعولين على خلاف الأصل الثاني : قال بعضهم ﴿قُرْبَانًا﴾ مفعول ثان قدم على المفعول الأول وهو آلهة، فقيل عليه إنه يؤدي إلى خلو الكلام عن الراجع إلى الذين والثالث : قال بعض المحققين : يضمر أحد مفعولي اتخذوا وهو الراجع إلى الذين، ويجعل قرباناً مفعولاً ثانياً، وآلهة عطف بيان، إذا عرفت الكلام في الإعراب، فنقول المقصود أن يقال إن أولئك الذين أهلكهم الله هلا نصرهم الذين عبدوهم، وزعموا أنهم متقربون بعبادتهم إلى الله ليشفعوا لهم ﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ﴾ أي غابوا عن نصرتهم، وذلك إشارة إلى أن كون آلهتهم ناصرين لهم أمر ممتنع.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
ثم قال تعالى :﴿وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ﴾ أي وذلك الامتناع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب في إثبات الشركاء له، قال صاحب "الكشاف" : وقرىء ﴿إِفْكِهِمْ﴾ والإفك والأفك كالحذر والحذر، وقرىء ﴿وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ﴾ بفتح الفاء والكاف، أي ذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق، وقرىء ﴿إِفْكِهِمْ﴾ على التشديد للمبالغة أفكهم جعلهم آفكين وآفكهم، أي قولهم الإفك، أي ذو الإفك كما تقول قول كاذب.
ثم قال :﴿وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ والتقدير وذلك إفكهم وافتراؤهم في إثبات الشركاء لله تعالى، والله أعلم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٥
٣٢
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon