المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر، بيّن أيضاً أن الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر، وأن مؤمنهم معرض للثواب، وكافرهم معرض للعقاب، وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب، وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف إلى مكة، وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين، لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني : أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم.
ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول : نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال : إنهم كانوا يهوداً، لأن في الجن "مللاً" كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون، سئل ابن عباس : هل للجن ثواب ؟
فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني : قال صاحب "الكشاف" : النفر دون العشرة ويجمع على أنفار، ثم روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسلاً إلى قومهم، وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة، وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن ؟
والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع /الرابع : روى القاضي في "تفسيره" عن أنس قال :"كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم مشية جني ونغمته، فقال أجل، فقال من أي الجن أنت ؟
فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس، فقال لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك ؟
فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها، وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام، وذكر كثيراً مما مرّ به، وذكر في جملته أن قال : قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام، وقد بلغت سلامه وآمنت بك، فقال عليه السلام، وعلى عيسى السلام، وعليك يا هامة ما حاجتك ؟
فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة، وعيسى علمني الإنجيل، فعلمني القرآن، فعلمه عشر سور، وقبض صلى الله عليه وسلّم ولم ينعه" قل عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حياً واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٣٢
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير قوله ﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ﴾ فقال بعضهم : لما لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلّم قراءة القرآن عليهم، فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن، فلهذا السبب قال :﴿وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ﴾.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ الضمير للقرآن أو لرسول الله ﴿قَالُوا ﴾ أي قال بعضهم لبعض ﴿أَنصِتُوا ﴾ أي اسكتوا مستمعين، يقال أنصت لكذا واستنصت له، فلما فرغ من القراءة ﴿وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ ينذرونهم، وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا، فعنده ﴿قَالُوا يَـاقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ ووصفوه بوصفين الأول : كونه ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه ﴾ أي مصدقاً لكتب الأنبياء، والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني : قوله ﴿يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة، والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك، سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أو لم ترد، فإن قالوا كيف قالوا ﴿مِنا بَعْدِ مُوسَى ﴾ ؟
قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى، ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا ﴿مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ﴾ واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه ؟
والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف.


الصفحة التالية
Icon